سورة الحجرات - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} تصديرُ الخطابِ بالنداءِ لتنبيهِ المخاطبينَ عَلى أنَّ مَا في حيزهِ أمرٌ خطيرٌ يستدعِي مزيدَ اعتنائِهم بشأنِه وفرطَ اهتمامِهم بتلقّيهِ ومراعاتِه، ووصفهُمْ بالإيمانِ لتنشيطِهمْ والإيذانِ بأنَّه داعٍ إلى المحافظةِ عليهِ ووازعٌ عن الإخلالِ بهِ {لاَ تُقَدّمُواْ} أيْ لا تفعلُوا التقديمَ عَلى أنَّ تركَ المفعولِ للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ منْ غيرِ اعتبارِ تعلقِه بأمرٍ منَ الأمورِ عَلى طريقةِ قولِهم فلانٌ يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ، أو لا تقدّمُوا أمراً منَ الأمورِ عَلى أنَّ حذفَ المفعولِ للقصدِ إلى تعميمهِ، والأولُ أَوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه النهيَ عنِ التلبسِ بنفسِ الفعلِ الموجبِ لانتفائِه بالكليةِ المستلزِمِ لانتفاءِ تعلقهِ بمفعولِه بالطريقِ البرهانيِّ وقدْ جُوِّز أنْ يكونَ التقديمُ بمعَنى التقدمِ ومنْهُ مقدمةُ الجيشِ للجماعةِ المتقدمةِ ويعضُده قراءةُ منْ قَرأ لا تَقدّمُوا بحذفِ إحْدَى التاءينِ منْ تتقدمُوا منَ القدومِ وقوله تعالى: {بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} مستعارٌ ممَّا بينَ الجهتينِ المسامتتينِ ليدي الإنسانِ تهجيناً لِما نُهوا عنْهُ، والمَعْنى لا تقطعُوا أمراً قبلَ أنْ يحكُمَا بهِ وقيلَ المرادُ بين يدي رسولِ الله وذكرُ الله تَعَالى لتعظيمهِ والإيذانِ بجلالةِ محلِه عندَهُ عزَّ وجلَّ. قيلَ نزلَ فيما جَرى بينَ أبي بكرِ وعمرَ رَضِيَ الله عنهمَا لَدَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تَأْميرِ الأَقْرعِ بنِ حَابِسٍ أَوِ القعقاعِ بنِ مَعْبدٍ {واتقوا الله} في كُلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ منَ الأقوالِ والأفعالِ التي منْ جُملتها مَا نحنُ فيهِ {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوالِكم {عَلِيمٌ} بأفعالِكم فمِنْ حَقِّه أنْ يُتقَّى وَيُراقبَ.


{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى} شروعٌ في النَّهي عنِ التجاوزِ في كيفيةِ القولِ عندَ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بعدَ النَّهي عنِ التجاوزِ في نفسِ القولِ والفعلِ، وَإعادةُ النداءِ معَ قُربِ العَهْدِ بهِ للمبالغةِ في الإيقاظِ والتنبيهِ والإشعارِ باستقلالِ كُلَ مِنَ الكلامينِ باستدعاءِ الاعتناءِ بشأنِه أَيْ لاَ تبلُغوا بأصواتِكم وراءَ حدَ يبلُغه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ بصوتِه وقرئ: {لا ترفعُوا بأصواتِكم} عَلى أنَّ الباءَ زائدةٌ {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول} إذَا كلمتُموه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أيْ جهراً كَائناً كالجهرِ الجَارِي فيمَا بينكُم بلْ اجعلُوا صوتَكُم أخفضَ منْ صوتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ وتعهّدُوا في مخاطبتِه اللينَ القريبَ منَ الهمسِ كَما هُو الدأبُ عندَ مخاطبةِ المَهيبِ المُعظمِ وحَافظُوا عَلى مُراعاةِ أُبَّهةِ النبوةِ وجَلالةِ مقدارِها، وَقيلَ مَعنْى لاَ تجهرُوا لهُ بالقولِ كجهرِ بعضِكُم لبعضٍ لا تقولُوا لهُ يَا محمدُ يَا أحمدُ وخَاطِبُوه بالنبوةِ قالَ ابْنُ عباسٍ، رضيَ الله عنُهمَا لما نزلتْ هذهِ الآيةُ قالَ أبوُ بكرٍ يا سولَ الله والله لاَ أكلمكَ إلاَّ السِّرارَ أَوْ أخَا السرارِ حَتَّى ألقى الله تعالَى وعن عمَر رضيَ الله عنْهُ أنَّه كانَ يكلمُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ كأخِي السِّرارِ لا يسمعُهُ حَتَّى يستفهمَهُ وكانَ أبوُ بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إذَا قدمَ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليهِ وسلَم الوفودُ أرسلَ إليهمْ منْ يعلمهُمْ كيفَ يسلّمونَ ويأمرُهُم بالسكينةِ والوقارِ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقولُه تعالَى: {أَن تَحْبَطَ أعمالكم} إِمَّا علةٌ للنَّهي أيْ لا تجهرُوا خشيةَ أنْ تحبطَ أوْ كراهةَ أنْ تحبطَ كَما فِي قولِه تعالَى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} أوْ للنهيّ أَيْ لا تجهرُوا لأجلِ الحبوطِ فإنَّ الجهرَ حيثُ كانَ بصددِ الأداءِ إلى الحبوطِ فكأنَّهُ فعلَ لأجلِه عَلى طريقةِ التمثيلِ كقولِه تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وليسَ المرادُ بما نُهيَ عنْهُ منْ الرَّفعِ والجَهْرِ ما يقارنُه الاستخفافُ والاستهانةُ فإنَّ ذلكَ كفرٌ بلْ مَا يتُوهم أنْ يؤديَ إليهِ مما يجرِي بينَهمْ في أثناءِ المحاورةِ منَ الرَّفعِ والجهرِ حسَبما يعربُ عنْهُ قولُه تعالَى: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} خَلاَ أنَّ رفعَ الصوتِ فوقَ صوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا كانَ منكراً محضاً لَمْ يُقيدْ بشيءٍ ولا ما يقعُ منهما في حربِ أو مجادلةِ معاندٍ أو إرهابِ عدوَ أو نحوِ ذلكَ وعنِ ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنُهما نزلتْ في ثَابتِ بنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وكانَ في أُذنِه وَقْرٌ وكانَ جَهْوريَّ الصوتِ ورُبَّما كانَ يكلمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيتأذَى بصوتِه وعنْ أنسٍ رضيَ الله عَنْهُ أنهُ لمَّا نزلتْ الآيةُ فُقِدَ ثابتٌ وتفقدَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فأخبرَ بشأنِهِ فدعاهُ فسألَهُ فقالَ يَا رسولَ الله لقدْ أنزلتْ إليكَ هذهِ الآيةُ وإِنِّي رجلٌ جهيرُ الصوتِ فأخافُ أنْ يكونَ عَمَلِي قدْ حَبِطَ فقالَ لَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لستَ هناكَ إنكَ تعيشُ بخيرٍ وتموتُ بخيرٍ وإنكَ منْ أهلِ الجنةِ وأمَّا مَا يُروى عنِ الحسنِ منْ أنَّها نزلتْ في بعضِ المنافقينَ الذينَ كانُوا يرفعونَ أصواتَهُم فوقَ صوتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ فقدْ قيلَ محملُه أنَّ نهيهَمُ مندرجٌ تحتَ نهَي المؤمنينَ بدلالةِ النصِّ {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} حالٌ منْ فاعِل تحبطُ أيْ وَالحالُ أنكُم لاَ تشعرونَ بحبوطِها وفيهِ مزيدُ تحذيرٍ مما نُهوا عنْهُ.


وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله} إلخ ترغيبٌ في الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ بعدَ الترهيبِ عنِ الإخلالِ بهِ أيْ يخفِضونَها مراعاةً للأدبِ أوْ خشيةً منْ مخالفةِ النَّهي {أولئك} إشارةٌ إِلى الموصولِ باعتبارِ اتصافِه بمَا فِي حيزِ الصلةِ، وما فيهِ منْ مَعنى البعدِ مَعَ قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ لمَا مرَّ مِراراً منْ تفخيمِ شأنِه وهُوَ مُبتدأٌ خبرُهُ {الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} أيْ جرّبَها للتَّقوى ومرَّنَها عليهَا أو عَرفَها كائنةً للتَّقوى خالصةً لهَا فإِنَّ الامتحانَ سببُ المعرفةِ، واللامُ صلةٌ لمحذوفٍ أَوْ للفعلِ باعبتارِ الأصلِ أوْ ضربَ قلوبَهُم بضروبِ المحنِ والتكاليفِ الشاقَّةِ لأجلِ التَّقوى فإنَّها لا تظهرُ إلا بالاصطبارِ عليَها أو أخلصَها للتَّقوى من امتحنَ الذهبَ إذَا أذابَهُ وميزَ إبريزَهُ منْ خبثِهِ. وعنْ عمرَ رضيَ الله عنْهُ أذهبَ عَنْها الشهواتِ {لَهُمْ} في الآخرةِ {مَغْفِرَةٍ} عظيمةٌ لذنوبِهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} لا يقادرُ قدرُهُ، والجملةُ إمَّا خبرٌ آخرُ لإنَّ كالجملةِ المصدرةِ باسمِ الإشارةِ أو استئنافٌ لبيانِ جزائِهم إحماداً لحالِهم وتعريضاً بسوءِ حالِ منْ ليسَ مثلَهُم {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات} أيْ منْ خارجِها منْ خلفِها أوْ قُدَّامِها، وَمِنِ ابتدائيةٌ دالةٌ عَلى أنَّ المناداةَ نشأتْ منْ جهةِ الوراءِ وأنَّ المُنَادَى داخلُ الحُجرةِ لوجوبِ اختلافِ المبدأِ والمُنتهى بحسبِ الجهة بخلافِ ما لَوْ قيلَ ينادونَكَ وراءَ الحجراتِ وَقرئ: {الحُجَرْاتِ} بفتحِ الجيمِ وبسكونِها وثلاثتُها جمعُ حُجْرةٍ وهَي القطعةٌ منَ الأرضِ المحجورةِ بالحائطِ ولذلكَ يقالُ لحظيرةِ الإبلِ حُجْرةً وهيَ فُعْلةٌ منَ الحَجْر بمَعْنى مفعول كالغُرفةِ والقُبضةِ والمرادُ بَها حجراتُ أمهاتِ المؤمنينَ ومناداتُهم منْ ورائِها إمَّا بأنَّهم أتوهَا حجرةً حجرةً فنادَوهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ ورائِها أَوْ بأنَّهم تفرقُوا عَلى الحجراتِ متطلبينَ لهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فناداهُ بعضٌ منْ وراءِ هذهِ وبعضٌ منْ وراءِ تلكَ فأسندَ فعلَ الأبعاضِ إِلى الكُلَّ وقدْ جُوِّز أنْ يكُونوا قدْ نادَوُه منْ وراءِ الحجرةِ التِّي كانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فيَها وَلكنَّها جُمعتْ إجلالاً لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وقيلَ إنَّ الذَّي ناداهُ عُييَنةُ بنُ حِصْنٍ الفزارِيُّ والأقرعُ بْنُ حابسٍ وَفَدا عَلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سبعينَ رجُلاً منْ بنِي تميمٍ وقتَ الظهيرةِ وهُوَ راقدٌ فقالاَ يا محمدُ اخرجْ إلينَا وإنَّما أسندَ النداءَ إلى الكُلِّ لأنَّهم رضُوا بذلكَ أوْ أُمروا بهِ أوْ لأَنَّه وجدَ فيَما بينَهمْ {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} إذْ لَوْ كانَ لهُم عقلٌ لمَا تجاسرُوا عَلى هذهِ المرتبةِ منْ سُوءِ الأدبِ.

1 | 2 | 3